
د. بسام الخالد
عشرات الاتصالات الهاتفية سبقت مجيئه إلى مكاتب المجلة التي كنت مدير تحريرها، وفي كل مرة يجيبه زميل ويرحب به وبنتاجاته الصحفية والإبداعية ويدعوه إلى فنجان قهوة لمناقشة أعماله التي تحدث عنها هاتفياً بشكل مطوّل..
كان ذلك في بداية عهدنا في العمل الصحفي، وكنت ومجموعة من الزملاء نتقاسم الرد على اتصالاته، وأستطيع القول: إنه لم يكد يمر يوم واحد إلا ويُسعد أحد الزملاء بسماع صوت هذا “المثقف الشامل” الذي يكتب في كل المجالات بحسب قوله، لدرجة أن شوقاً عارماً بدأ يجتاحنا لمعرفة هوية هذا الكاتب الكبير والصحفي المتمرس.
في أحد الأيام، وبينما كنت بمفردي في الغرفة،
رن جرس الهاتف.. حملت السماعة متثاقلاً.. لأسمع صوت محدثي.. إنه الكاتب العظيم بشحمه ولحمه.. فقد بات صوته مألوفاً لدى الجميع.. رحبت به ودعوته كالعادة لزيارتنا.. فالمناقشة على الهاتف لا تجدي نفعاً.. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما لبى دعوتي.. وهنا تنفستُ الصعداء وحققت سبقاً على جميع الزملاء باستدراج كاتبنا الى مكاتب المجلة، ومنّيتُ نفسي بمادة صحفية، أدبية، فنية، اقتصادية، نفسية، أو حتى اجتماعية ترفد صفحات مجلتنا وتُسعد قراءنا.. مهلاً.. فقد نسيت شيئاً.. لقد أعلمني “المثقف الشامل” أنه يكتب في القضايا العسكرية أيضاً.. قلت في سرّي: لا بأس فالمجلة يمكنها هضم كل هذه الأنواع الصحفية شريطة أن تكون المادة مناسبة.
بعد نصف ساعة، وكنت ما أزال بمفردي في الغرفة، قُرع الباب.. فتحت.. فوجدت نفسي وجهاً لوجه أمام صاحبنا المثقف.. رحبّت به ودعوته للدخول.. وبصعوبة بالغة تمكن من إدخال كيسه الضخم من الباب!
وقبل أن أبادره بالسؤال عن سرّ هذا الكيس سارع وأفرغ بعض محتوياته على المنضدة، وبسرعة التقطت عيناي بعض العناوين: “لماذا انتهى زمن العمالقة”.. “كيف تكون تاجراً ميسوراً”.. “حبّ في طنجرة”.. “رجل يستحم في الصحراء”..”الإبداع والمبدعون”.. وأخيراً وليس آخراً العنوان المثير التالي: “رحلة على بغل أعرج”.. إضافة الى العديد من العناوين التي لم أتمكن من التقاطها!
سألته هل هذه المواد جميعها للمجلة؟
– نعم.. اختر ما تريد.. كل شيء موجود هنا وجاهز للنشر فوراً ولن أترك لك “حجّة”!
أيقنت أنني وقعت في الفخ.. فانتقيت تشكيلة من بعض العناوين واحتفظت بها من أجل دراسة صلاحيتها للنشر (هكذا قلت له).. لم يقتنع وأخذ يمطرني بوابل من الأسئلة عن موعد نشر أبحاثه العظيمة ومؤلفاته القيمة، وكم سندفع له أجور استكتاب، وهل الدفع بالعملة المحلية أم بالعملة الصعبة؟!
قلت له: على رِسلِك يا أستاذ.. فنحن لم نقرر النشر بعد.. وكانت هذه الجملة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.. فقد كان صاحبنا ينتظر أن أفتح حواراً من هذا النوع لينفجر ويبدأ مقارنات ومعاتبات ومحاضرات استغرقت ساعة كاملة كنت خلالها صامتاً خوفاً من التفوّه بكلمة جديدة تزيد من فترة “جَلدِي” ساعةٌ أخرى!
لملم صديقنا “المثقف الشامل” أوراقه وهمّ بالخروج.. وعندما رافقته الى الباب ودعته ملوحاً بيدي من غير كلام، وعدت إلى مكتبي لأتنفس الصعداء وأزفر زفرة كبيرة طيّرت كل الأوراق التي دونت عليها أفكاري السابقة!
