الصدى.. نافذة سورية إلى العالم

المدينة تحتضر

كانت المدينةُ تُشبهُ قلباً أُنهك من الخيبات، ينبضُ على استحياءٍ في صدرِ الصمت.

لم تعد نوافذها تُفتح على الفجر، بل على الغبار.

الشوارع التي كانت تضحك بأصوات المارة، أصبحت تتثاءب كشيخٍ عجوزٍ فقدَ أبناءه واحداً تلو الآخر.

حتى النهر الذي طالما غنّى على ضفّتيها، صار ماؤه يشبه دمعةً أُسقِطت من عينٍ لم تعد تؤمن بالبكاء.

في الساحات، تذبل الزهور قبل أن يكتمل عطرها.

وفي العيون، يختبئ الخوف كطفلٍ ضلَّ طريقه في العتمة.

لا أحد يرفع رأسه للسماء، فالسماء نفسها انطفأت،

وصار الضوء مجرّد ذكرى تسكنُ حديث العجائز.

المدينة لا تموت دفعةً واحدة، بل تنزفُ ببطء…

نزيفها صمتُ الناس، وخيانةُ الذين وعدوا بالنجاة ثم غابوا،

وتلك الجدران التي تبتسم للغبار كما لو كانت راضيةً بمصيرها.

كانت تمشي بخطًى مترددة بين الأزقة، تراقب الوجوه التي تشبه الظلال.

كلّ وجهٍ يحمل ملامحَ مدينةٍ صغيرةٍ داخله، مكسورة الأسوار، مطفأة النوافذ.

قالت في نفسها:

“لماذا يُشبه الناس مدينتهم إلى هذا الحدّ؟ أم تراها المدينة هي التي تتقمصهم حين تضعف؟”

كانت تبحث عن صوتٍ واحدٍ يرفض الصمت،

عن نافذةٍ ما زالت تؤمن بالنور،

لكن كلّ ما وجدته هو صدىً لخطواتها،

وصوتُ الريحِ وهي تُزيحُ رماد الأيام عن الأرصفة.

تذكّرت حين كانت المدينة تضجُّ بالحياة —

كان الأطفال يركضون خلف ضوء الغروب،

وكانت الأغاني تخرج من المقاهي كعطرٍ دافئ،

وكان الإيمان بالحبّ يُنقذ الجميع من السقوط.

أما الآن، فالضحكات تُقاس بالذاكرة،

والأمل صار عملةً نادرة،

وكلّ من يحاول الحلم يُتَّهم بالجنون.

في المساء، جلست على درجٍ حجريٍّ في ساحةٍ خالية.

الريح تعزف أنينها بين النوافذ الموصدة،

والسماء تتهشم فوق الأسطح كسقفٍ من زجاجٍ هشّ.

رأت لوحة الإعلانات تسقط ببطء،

كأنها إعلانٌ أخير عن نهاية زمنٍ طويلٍ من الكذب.

حتى الساعة الكبيرة في برج البلدية توقفت،

كأنها قررت أن الوقت لا يستحق أن يُقاس بعد الآن.

“كل شيء هنا يحتضر… حتى المعاني”،

همست وهي تنظر إلى تمثالٍ في منتصف الساحة.

كان التمثال قد تهشّم نصف وجهه،

وكأن الحقيقة نفسها لم تعد قادرة على الاحتفاظ بملامحها.

في تلك اللحظة شعرت أن المدينة ليست سوى مرآةٍ ضخمة،

تعكسُ ما تبقّى من الإنسان فيها.

كلّ ما خنقناه من صدقٍ وحلمٍ ورحمة،

تحوّل إلى غبارٍ يخنقنا الآن.

ثم هبّت نسمة خفيفة، كأنها أنفاسُ المدينة الأخيرة…

ومعها أدركت المرأة أن الموت لا يبدأ حين تتوقف القلوب،

بل حين نتوقف عن الإحساس بالآخرين.

وصمتتِ المدينة أخيراً…

كأنها وصلت إلى حدود الألم، إلى لحظةٍ لا صوت بعدها.

في ذلك السكون كانت المرأة تقف أمام نافذتها – النافذة الوحيدة التي لم تُغلق بعد.

تطلّ منها على الخراب والنجوم، كمن يُلقي نظرة وداعٍ على زمنٍ لم يفهمه.

وقالت في سرّها:

يوماً ما

ستفتح نافذة غرفتك ولن تغلقها بعد ذلك أبداً،

ستشرب قهوتك ولن تغسل القدح،

سترتدي ملابساً لن تخلعها مُجدداً،

سترى الشمسَ كطفل،

وتتلمس الحياة كأعمى،

يوماً ما سينتهي كلّ هذا،

وتستعيد سلامَك الأبدي،

وتفكّ أغلالك وتتحرّر،

وها أنت ذا… تكتب “يوماً ما”.

ثم أغلقت عينيها، فابتسمت المدينة لوهلة،

كما لو أنها وجدت في موتها خلاصاً،

وفي سكونها حياةً جديدة…

لا تُرى إلا في الهدوء.

المنشورات ذات الصلة

اترك تعليق