الصدى.. نافذة سورية إلى العالم

أنا ابن الشارع!

عاش الطفل ابن التاسعة يتنقل بين والدين- منفصلين- لا يرغبان به، كأنه حقيبة بلا قرار. وفي النهاية أجبرته أمه على التسول، وعندما أخفق في جلب المال، سكبت عليه ماء يَغلي، أفقده جزءاً كبيرا من جلد فروة رأسه.

 الحكاية، ليست مجرد سردٍ لمعاناة طفل، بل مرآةً مشروخة تعكس انكسارات مجتمع يفرِّط في أقدس مسؤولياته: حماية الطفولة. قصة هذا الطفل ليست نادرة، لكنها أكثر من مجرد حالة فردية؛ إنها صرخة فلسفية في وجه القيم التي تآكلت تحت وطأة الجهل، الفقر، والعنف الأسري، واختلال المفاهيم الدينية والاجتماعية.

حين تصنع أمٌ بطفلها هذا الصنيع، فإننا لا نكون إزاء أمومة فاشلة فحسب، بل أمام مَوتٍ رمزي للأمومة ذاتها. الأم، كما عرفتها الفطرة والدين، هي مصدر الحنان، والحِضن الأول، والمأوى من قسوة العالم. لكن “أمّ هذا الطفل” لم تكن أماً… كانت تجسيداً صارخاً لانقطاع الحبل السري بين الإنسان وقيمته.

 الطفل لم يكن مجرد ضحية. لقد كان نتاجاً لخللٍ مركب: أب تنصَّل، وأم تخلَّت، ومجتمع صامت، وعائلة غائبة. فحين يُولد الطفل ولا يجد غير الشارع بديلاً عن المدرسة، وغير السبّ والركل لغة للحوار، فإنّ “الشارع” لا يعود مكاناً.. بل يصبح هوية.

 ما حدث يعدّ نقيضاً تاماً لكل ما دعت إليه الشريعة. فالرسول ﷺ قال: “كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يعول.” بل أن الإسلام رفع الأمّ إلى منزلة لا تُضاهَى، حين كرر النبي ﷺ ثلاث مرات: “أمك”، حين سُئل: “من أحق الناس بحسن صحابتي؟”. فأيّ تدين يبقى حين تحوّل الأم حضنها إلى سياط، وبيتها إلى ساحة عقاب؟!

 لكننا لسنا هنا لنبكي فقط. بل لنتأمّل. كيف تتشكل الوحشية داخل الأسرة؟ ولماذا يصير الضرب والتعنيف سلوكاً معتاداً؟ وهل الفقر وحده مسؤول؟

 الفقر قد يفسَّر، لكنه لا يبرَّر.

هناك فقراء أنجبوا أبطالاً بالحب، لا بالرفاه.

ما ينقصنا ليس المال فقط، بل التربية على الرحمة، الثقافة النفسية، والمسؤولية القانونية.

محمد حين قال: “أنا ابن الشارع”، لم يكن يطلب شفقة. كان يعلن بوضوح أنّه تمّ طرده من معنى الأسرة، وأن المجتمع بأكمله صار مسؤولاً.

 فالأم ليست فقط من تلد، بل من تحب، تحنو، وتُربّي. والدولة ليست فقط من تبني مدارس، بل من تحمي الأطفال من أن يتحولوا إلى “أبناء شارع” برعاية أسرهم.

لكنّ محمد ليس وحده، هناك آلاف الأطفال في الأزقّة، ينامون بأوجاعهم، ويصمتون تحت وطأة أقدار لم يختاروها. أطفال لم يُولدوا خطيئة، بل حُرموا من الحُب بفعل خطايا غيرهم.

وهنا نتساءل: أين الرعاية الاجتماعية؟ أين المساجد في توجيه الأسر؟ أين الإعلام في تسليط الضوء على هذه الكارثة المستترة؟

إذا لم نُحسن الإصغاء لأصوات الصغار الآن، فسنُضطر غداً للركض خلفهم في دوائر الانحراف والتشرّد والجريمة.

لا تكفي الشفقة العابرة، بل لا بد من منظومة وقائية تُربّي الوالدين قبل أن تُحاسبهم، وتعيد للرحمة منزلتها قبل أن تتحول القسوة إلى عرف، فأشباه الأمهات لا يُنشِئن أطفالاً.. بل يخلقن جروحاً تمشي على قدمين.

يجب أن يتحول ألم محمد إلى محرك ضمير جمعي. لا بد من قوانين أكثر صرامة في مواجهة العنف الأسري، ومن دعم حقيقي للأمهات المعنفات والمهمشات نفسياً،

 لكن الأهم: لا بد من خطاب ديني واجتماعي يعيد تعريف الأمومة كمسؤولية، لا كوظيفة بيولوجية. فحين تفقد الأم صفتها، لا يولد فقط “ابن بلا أم”.. بل ينكسر ميزان الرحمة في المجتمع كله.

المنشورات ذات الصلة

اترك تعليق