
المحامي محمد الخالد
باحث متخصص في القانون الخاص
ُيعد قانون العمل السوري رقم 17 لعام 2010 والمطبق بشكل رئيسي على القطاع الخاص خطوة مهمة في مسار تنظيم علاقات العمل في سورية، إلا أنه لم يعد كافياً لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي يشهدها العالم، ولاسيما مع دخول أنماط جديدة من العمل فرضتها العولمة والتحول الرقمي، كـالعمل عن بُعد، والعمل عبر المنصات الرقمية، والعمل من المنزل، ومشاركة العامل. فعلى الرغم من أن القانون قد تناول العمل الجزئي ونظّمه بشكل مقبول، إلا أنه أغفل بقية أشكال العمل غير النمطية، مما ترك فراغاً تشريعياً واسعاً يضعف الحماية القانونية للعاملين في هذه المجالات ويقيد فرص الاستثمار والتوظيف الحديث، وهو ما سيغدو أكثر وضوحاً في مرحلة ما بعد سقوط النظام وبدء إعادة الإعمار والانفتاح الاقتصادي التدريجي المتوقع.
إنّ قراءة دقيقة لنصوص القانون تكشف قصوراً جوهرياً في المفاهيم التي بُني عليها. فالمادة الأولى من قانون العمل تُعرّف العامل بأنه “كل شخص طبيعي يعمل لدى صاحب عمل وتحت إدارته وإشرافه مقابل أجر”، وهو تعريف تقليدي يفترض وجود علاقة تبعية مادية ومكانية بين العامل وصاحب العمل، ولا يتسع لتغطية الحالات التي يعمل فيها الشخص عبر الإنترنت أو من منزله أو من بلد آخر. كما أن القانون لم يتطرق إلى مسؤوليات صاحب العمل تجاه توفير الأدوات التقنية، أو ضمان أمن المعلومات، أو تغطية تكاليف الاتصال والصيانة، وهي عناصر جوهرية في علاقات العمل الحديثة. إضافة إلى ذلك، لا يوجد أي تنظيم لمسألة ساعات العمل في الأنشطة الرقمية، أو لحق العامل في “قطع الاتصال” بعد انتهاء الدوام، وهو ما اعتمدته تشريعات أوروبية حديثة حمايةً للتوازن بين الحياة والعمل.
وفي ظل التحولات المتوقعة بعد رفع العقوبات الجزئية وعودة الانفتاح الاقتصادي، تصبح الحاجة ماسّة لتطوير هذا القانون بما يتوافق مع الاتجاهات الدولية ويُهيئ البيئة القانونية لجذب الاستثمارات. ويمكن في هذا الإطار الاستفادة من التجربة الأوروبية، حيث عرّفت الاتفاقية الأوروبية للعمل عن بُعد هذا النمط بأنه “طريقة لأداء العمل باستخدام تكنولوجيا المعلومات خارج مقر صاحب العمل بشكل منتظم”، وأكدت على المساواة التامة في الحقوق بين العاملين عن بُعد والعاملين في المكاتب، كما نصت على التزام صاحب العمل بتوفير التجهيزات التقنية وحماية البيانات الشخصية وتحمل تكاليف الاتصال.
إنّ تطوير قانون العمل السوري ليشمل العمل عن بُعد وأشكال العمل غير النمطية الأخرى ليس ترفاً تشريعياً، بل ضرورة استراتيجية لإعادة بناء سوق العمل بما يتلاءم مع متطلبات الاقتصاد الحديث. فتبني تعريفات واضحة لهذه الأشكال الجديدة وتنظيم عقودها وضمان حقوق العاملين فيها سيعزز العدالة الاجتماعية من جهة، ويشجع أصحاب الأعمال على الاستثمار في بيئة قانونية مرنة وواضحة من جهة أخرى. ومن ثم فإن التوصية الجوهرية تكمن في إعادة النظر الكاملة في قانون العمل رقم 17 الذي تجاوزه الزمن، ووضعه في الأرشيف القانوني، والبدء بصياغة قانون عمل جديد شامل ومعاصر، ينهض على أسس حديثة تراعي التطور التكنولوجي وتتماشى مع المعايير الدولية، ليكون حجر الأساس في بناء سورية المستقبل الأكثر عدالة وازدهاراً وانفتاحاً على العالم.
mohamadalkhaled963@gmail.com
