
د. بسام الخالد
جاء إلى العاصمة من قرية ريفية نائية لمتابعة دراسته الجامعية، حمل معه شهادته الثانوية والكثير من الطيبة والكرم والمروءة وحب الأرض. خلال دراسته الجامعية كان ينهي كل امتحاناته بتفوق، ويعود إلى قريته في العطلة الصيفية ليعمل في الأرض ويشرف على أمه المريضة، وبعد أن يُؤمِّن مصروف عامِهِ الدراسي القادم يعود إلى العاصمة لمتابعة الدراسة.
في عامه الأخير تعرف إلى زميلة له من بنات العاصمة، تلك التي كان جميع الزملاء ينظرون إليها بإعجاب.. شعر بالسعادة لأنها طلبت منه يوماً إعارتها «نوتة» المحاضرات التي يلخص فيها الدروس، لم يتلكأ.. توطدت العلاقة بينهما.. حكى لها عن القرية والريف الجميل، وعن أمه التي تنتظر عودته بفارغ الصبر، وكان صادقاً في كل أحاديثه إليها. تخرّج في الجامعة بتفوق وكان من الثلاثة الأوائل على دفعته وتم تعيينه معيداً في الكلية، لكنه تردد بين أن يبقى في العاصمة، أو يعود لقريته. تدخلت زميلته وأقنعته بالبقاء، وزيّنت له طريق الدراسة وأنه سيصبح “الدكتور” فلان بعد سنوات قليلة، وسيُشار إليه بالبنان، أما إذا عاد إلى القرية فسيصبح منسياً! تذرع بأمه المريضة.. أقنعته بإحضار أمه إلى العاصمة لتكون بجانبه، اقتنع على مضض وتابع دراسته العليا في الجامعة.. بعد سنوات حصل على شهادة الدكتوراه باختصاصه ولحقت به زميلته وتخرجت هي الأخرى وحصلت على درجة الدكتوراه في الاختصاص نَفْسِه، بمساعدته وحرصه على نجاحها.
فاتحته بالزواج.. تردد.. أقنعته أن زواجهما لن يكلفه شيئاً، فأبوها يمتلك بنايتين في العاصمة وعدة مصانع وهي الوحيدة لأبويها ولا يعقل أن يدعاها تبحث عن سكن، وما عليه إلاّ أن يوافق فكل شيء جاهز..! قال لها: وأمي؟ قالت: بعد الزواج سندعوها لتعيش معنا.. وهكذا تم الزواج، ووجد “الدكتور” نفسه في شقة فخمة وسط العاصمة لم يُحضر إليها إلا ثيابه البسيطة ومؤلفاته. بعد أيام قليلة من الزواج ذهب إلى قريته وأحضر والدته لتعيش معه.. حملت الأم بعض سلال الأطعمة التي لا تتوافر في المدن الكبيرة وأحضرتها معها ورافقت ابنها إلى العاصمة. عند وصولهما استقبلتهما الزوجة “الدكتورة” وعلى ثغرها ابتسامة صفراء وتسمّرت عيناها على سلال الوالدة، ودون مقدمات طلبت من الدكتور رمي السلال في القمامة، فهي لا تحتاج إلى هذه الأوساخ! استغرب الدكتور تصرفها، لكنه تحمل على مضض فهو لا يريد أن يُشعِر والدته بالحرج لحظة قدومها.
بعد أيام استدعت الدكتورة زوجها الدكتور إلى غرفة جانبية من الشقة وقالت له بلهجة آمرة: اسمع يا دكتور.. بيتي ليس فندقاً، إذا أرادت أمك البقاء في العاصمة فاستأجر لها غرفة، فأنا لا أتحمل حياة الفوضى التي كنت تعيشها في القرية، واعلم أن لهذا البيت نظاماً يجب أن يسود إذا رغبت في الاستمرار معي، وقبل أن يفيق من دهشته أضافت: برنامجنا سيكون على الشكل التالي: الاستيقاظ في الساعة السابعة والفطور في السابعة والنصف، والذهاب إلى العمل في الثامنة، والغداء في الساعة الثالثة، ثم قيلولة الظهيرة حتى الرابعة والنصف.
السهرة تبدأ في السابعة.. وفي الحادية عشرة تطفأ الأنوار، أما الغسيل فهو يوم الخميس، ويوم الجمعة سأخصصه لاستقبال صديقاتي حيث تكون أنت في زيارة أمك! صُعق الدكتور مما سمع وانتابته حالة من الذهول استغرقت دقائق.. ودون أن ينبس ببنت شفة أمسك يد أمه، وحمل سلالها باليد الأخرى وغادر بيت “الدكتورة” هاجراً العاصمة، وحجز في أول سيارة متجهة إلى قريته!
